أدب الشباب الحر
  قصة: أضغاث يقظة
 

 




قصة قصيرة: أضغاث يقظة

          بقلم : أيمن بوخريص- البقالطة-تونس





التصدير :
 
 
« قلت : فليكن العقل في الأرض ، تصغى ﺇلى صوته المتزن.
قلت : هل يبتنى الطير أعشاشه فى فم الأفعوان ،
هل الدود يسكن في لهب النار ، والبوم هل
يضع الكحل فى هدب عينيه ، هل يبذر الملح
من يرتجى القمح حين يدور الزمن.
ورأيت ابن ادم وهو يجن ، فيقتلع الشجر المتطاول ،
يبصق في البئر ، يلقى على صفحة النهر بالزيت ،
يسكن في البيت ، ثم يخبىء فى أسفل الباب
قنبلة الموت ، يؤوي العقارب فى دفء أضلاعه،
ويورث أبناءه دينه.. واسمه .. وقميس الفتن .
أصبح العقل مغتربا يتسول ، يقذفه صبية
بالحجارة ، يوقفه الجند عند الحدود ، وتسحب
منه الحكومات جنسية الوطني ..وتدرجه في
قوائم من يكرهون الوطن .
قلت : فليكن العقل فى الأرض، لكنّه لم يكن
سقط العقل في  دورة النفى والسجن .. حتى يجن »
 
 
 
 
أمل دنقل            
العهد الآتى {الإصحاح الثالث} 






في هذه اللحظات من الحرية، أخذت أسترجع ﺇجابة صديقي وشقيق روحي "منذر" لما سألته أن يفتني في السعادة فقال :« السعادة أن لا تبرح هذا المكان » ، وجعلني بقوله ذاك أتأمل كل ما يعترضني هنا فقد كان "منذر" صاحب حكمة وعلم وكنت أثق في كل ما يقول ، رغم أني لا أجد ما يميز هذا المكان ﺇلى درجة تجعله موطنا للسعادة . أخذت أمشط أركانه ببصري ، كان كل شيء هادئا وعاديا ، عدا رجع وشوشة رتيبة بدأت تقض هذا السكون وكلّما أمعنت في التأمل اقترب الصوت كأنه طنين يخز مسامعي ، شعرت أن أفكاري أصابها التشويش وأن تأملاتي تبعثرت فارتبكت وصخب الطنين في أذني فاضطرب خطوي وتعثرت في مزقة غيم كنت أقف على قطنها وانزلقت ﺇلى هوة الفضاء السحيق ، أحسست بقلبي يتدحرج في نبض متسارع مرتجف والطنين يحتد في رأسي وأنا أهوي وأرمق بعينين جاحظتين من فزع اقترابي مما يشبه مدينة صخرية . وأسقط ..أسقط.. ثم ارتطمت..                                                          
                                      
*         *         *
 
فتحت عيناي فوجدت نفسي واقعا على أرض الواقع . كان سريري فارغا وكنت على الأرض أصارع اللحاف والصداع يعصف برأسي من حدة رنين منبه الساعة ، هويت على زره بيد كسولة للأخرسه ،فانكتم .. وظل رجعه يرتد في رأسي ، ولما ألقيت نظرة على الوقت هزتني الصدمة فقفزت واقفا ، رششت الماء على وجهي وارتديت ثيابي على عجل ثمّ غادرت المنزل .                                                          
فيالخارج كانت المفاجأة تنتظرني..                                                                                 
كان الطقس –من المفروض- ربيعيا ، لكن الجو كان ثقيلا خانقا والألوان باهتة تميل ﺇلي الرمادي ،وكانت روائح القذرات والمحروقات تنبعث من كل مكان يصحبها أزيز محركات يغلق الأسماع دون بقايا سقسقات الطيور فيذكي في رأسي أزيز الصداع ..لم أستوعب ما كنت أرى ولم أفهم ما يمكن أن يحصل لهذا الحيّ  في ليلة واحدة ..متى رفعت هذه المباني الشاهقة الضخمة التي قبعت على صدر الشوارع الضيقة كقبور من ثلج ، ولمن رفعت ما دام من بناها مازال يسكن أحياء من القصدير ترقد عند ساقها وتشحذ فتات نفاياتها؟! و من الذي أعفى الحدائق من أريج أزهارها ونصّب أكوام المزابل خليفة عنها؟
أيّ لعنة لحقت بهذا المكان؟
ألاف الأسئلة أخذت تنسل من حيرتي فحاولت بلفتات متوترة ومرتابة أن أبحث عن "منذر" ليجيبني عنها ويرشدني ﺇلي حقيقة ما يحصل فلم أر غير كائنات تكاد تشبه البشر ﺇلا أن لها وجوه متخشبة في عبوس وتجهم ، ولها كجاتا بلور وضعتا في محاجر العيون تغشيهما نظرة ميتة ، وكانت الفتحة التي تقابل الأفواه عند البشر مرتوقة لديها كما يرتق الثوب المفتوق ، وكانت حركتها سريعة ومجنونة ومتشابكة الإتجاهات على غير هدى وزادها صداع رأسي الذي ما انفك يحتد جنونا .                                                
عندها بدأت دهشتي تتحول ﺇلي خوف .. فهذا المكان الذي وجدت نفسي ملقى فيه أشبه بمقبرة تروح الجثث فيها وتغدو .. سرت رجفة فزع في كل مفاصلي وتجمعت في ركبتي كرغبة جامحة في الركض ، فركضت هاربا ، وحاولت أن أصرخ مستنجدا : "منذر" فتمثل لي في صورة صبي جائع وكانت جثة منتفخة من التخمة تسرق منه رغيفه ، ثم التفتت نحوي ولحقتني ، فركضت وحاولت أن أصرخ ثانية :"منذر" فتمثّل لي هابا من أخيه الجندي الذي بدا كفزاعة من قش تصوب نحونا سلاحها الخشبي ، فركضت وركضت ﺇلي أن نز العرق من كل خلية في جسمي وجف حلقي ويبس لساني ، وفي محاولة لطلب الرواء عجت على مجرى نبع الماء العذب وحال وصولي وجدت جثة تترنح وهي تقضي حاجتها في الجدول ، وعلى بعد قبرين منها جثة تسيّج النبع وتمنع ماءه، رأيت جثّة أمّا تلقي بجثّة رضيعها في مصبه، وأخري تسمح لكلابها الجرباء بالإستحمام في مجراه..  في تلك اللحظات من الإشمئزاز أردت أن أقيئ أفئدتي .. وأحسست أن قلبي يدق على بوابة أضلعي راغبا في الخروج والركض من شدة الرعب .                  
حاولت أن أصرخ ثالثة : "منذر" فظهر لي في هيئة فارس مقيد أحاطت به الجثث من كلّ جانب وأخذت تسلبه سيوفه وحرابه وأسلحة مجده وتعطيها ﺇلي حداد كان يذيبها ويصنع من حديدها كرسيا صدئا ويطرق يطرق فيطرق الألم في رأسي ..           
واشتعل الضمأ في حلقي وجفت الدماء في عروقي فانكببت على الجدول لأعبّ شربة من السائل الذي حواه مهما كان علني أطفئ لهيب عطشي .. لكني لمحت وجهي على صفحته..                 
 "منذر" أنا أيضا    
 أنا أيضا ..                                       
لي وجه متخشب عبوس متجهم ، "منذر" عيناي زجاجية ونظراتي ميتة،  
"منذر" أنا أيضا شفتاي مرتوقتان،..
حاولت أن أصرخ لكن صوتي انحبس
 حاولت أن أركض لكن حركتي شلت            
 واحتد الصداع وأخذ رأسي يهتز من الألم    ويكاد ينفجر 
ثم ..
ثم ثقلت عيناي وخف جسمي وبدأت أصعد ..أصعد..                                                                                                                            
*         *         *
 
            تشبثت بمزقة غيم وتسلقت قطنها منهكا حتى ﺇذا بلغت صهوتها جلست ألتقط أنفاسي وأتحسس رأسي الذي بدأ الصداع يغادره ، وأخذت أمشط أركان المكان ببصري : كل شيء هادئ وطبيعي ، لكأنني كدت أصدق ما رأيت في ذلك الكابوس المرعب ، فركضت أتفرس في وجوه الناس : وجوه نضرة باسمة منشرحة تفيض بطيبة البشر ، وكان حينا كما عهدته مرصعا بتلك المباني الجميلة على بساطتها والملوءة دفئا عاطفيا وحنانا وتلك الحدائق التي تلفه من كل الجهات ،تعبق منها روائح وألوان الربيع الحية .. هرولت أطلب "منذر" فعبرت جنات النخيل والأعناب ﺇلي قصره الأثيري فرأيت أخاه الجندي يقف بمدخل أرضها ويحرسها من طمع الأعداء ورأيت نبع الماء ينساب خلالها صافيا عذبا ، فانكببت عليه أتفقد وجهي فإذا هو وجهي بشري تشع من مقلتيه نظرات الحياة وفمي مفتوح لا لجام عليه ، ركضت من الفرح ودخلت على "منذر" فوجدته متكئا على أرائك الورود بين كتبه وصحف علمه فضممته ﺇلي في شوق وقلت له : «يا صاحب الحلم أفتني في هذا الواقع »                                                                
 قال أحد جلاسه: - وسوسة خيال.                                               
 وقال اخر: -  أضغاث يقظة                                                       
لكن "منذر" ظل صامتا..
 
قلت :- « يا صاحب الحلم أفتني في هذا الواقع»
                                  قـال : - «لايعلم تأويله ﺇلا الله ».
 
  Aujourd'hui sont déjà 3700 visiteursIci!  
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement