
الإهــــــــــــــداء
إلى الذين انتظرتهم ولم يأتوا
إلى الذين أتيت ولم أجدهم في انتظاري..
إلى أمّة صامدة تنتظر
"سيأتي أهلك الباقون
وسيدخلون
سيدخلون
كما دخلوه أوّل مرّة"
جمال الصّليعي
إلـيـه..
( لا تـهــاجــر ثانية )
الإنــتــظـار حــالــة عـبـوديّــة
ذاكرة الجسد
-1-
...هذه فكرة تصلح للكتابة أخيرا..
ينتهي الإنتظار الآن،
تنتهي سنوات المنفى،
ينتهي العذاب الذي عانيته في زنزانة الصّمت المرعبة.
لقد كان "معين بسيسو" يقول قبل أن يصمت إلى الأبد:
"الآن تعرف أنّ صمتك لم يكن ذهبا
ولا قصبا
وأنّك حين تصمت يصعدون إلى فمك"
وأنا عرفت الآن..
لذلك أتيت،
أتيت مصمّما على تهريب بعض من صوتي المبحوح الذّي رزح لسنوات تحت أصفاد البياض الثّقيل،
وسأكتب أخيرا..
أذكر الآن كم كنت ألومك عندما تتوقّفين عن الكتابة لفترة، وكنت أقول لك إنّ الكتابة لا تتوقّف مادام نزف همومنا لا يتوقّف. ثمّ أخذت الكتابة بعد ذلك تزداد نضوبا يوما بعد يوم وأصبح نزف همومنا الذّي لا يتوقّف هو أكثر الأسباب التّي تدفعنا للصّمت وتلقي بنا في الصّحاري المتجمّدة للإنتظار.
وأنا خبرته؛ خبرت لسعة النّفي القارس في صفحة من جليد، خبرت تثلّج الحروف فوق الشّفاه المرتجفة، لذلك أتفهّم جيّدا أنّك امرأة لا تنتظر.
ولن ألومك فقد عرفت أنّك لن تكوني في انتظاري منذ سألتني:
- هل ستأتي حقّا؟
لم أعرف آنذاك إن كنتُ سآتي حقّا، إنّما كنت أعرف أني أريد حقّا أن آتي.
وأتيت..
كانت المحطّة تغرق في المساء، وفي المساء يتناسل الحزن ويفرّخ في الزوايا المعتّمة بالغياب، وكنت حزينا حدّ الثّمالة ومنهكا أصارع أملا عنيدا يرفض أن يخرس داخلي ولا يقبل أن أتجاهل غيابك الذّي فضح المحطّة ببرودها المتشفّي الذّي استقبلتني به، والنّظرات اليابسة التّي كانت تتلقّفني في فتور.. كنت أريد أن أتجاوز الخيبة إلى تلك النّقطة الهادئة المطمئنّة من اليأس.. لكنّ طيفك كان يلحّ عليّ ويستبدّ بمخيّلتي ويطفو فوق الوجوه باستفزاز حتّى إنّي كدت أجزم لوهلة من وهم أنّ فتاة تشبهك كانت تجلس بين جحافل المنتظرين، لولا أنّها كانت مستسلمة للإنتظار، وكنت أعرف أنّك امرأة لا تنتظر.
في تلك اللّحظة فقط تعلّمت أنّ الغربة هو المكان الذّي لا أحد ينتظرك فيه.
لكن تصوّري! رغم كل ذلك الضّياع كان هناك شخص في انتظاري.
كدت أغادر المحطّة عندما قطعت عليّ كفّ صغيرة حبل حزني وهي تهزّ يدي برفق، فالتفتّ مندهشا، ووجدت طفلا يبتسم في أسى،
تصوّري حتّى وجوه الأطفال عرف الأسى طريقه إليها!
ربتّ على شعره فاحتضن ساقي مستعطفا وحدّثني عن أنين الجوع وبرد الإنتظار.
أمّا الطّفل فكان ينتظر أيّ شخص يأتي، وأمّا أنا فأتيت وكنت أبحث عن شخص ينتظر أكون قد أتيت من أجله.. أستطيع الآن أن أقول إنّي أتيت لأوقف انتظار أحد ما، وليكن هذا الطّفل الجائع.
مددت له يدي بما كان في جيبي وغادرت المحطّة.
ما رأيك الآن؟
أليست فكرة تصلح للكتابة حقّا؟
أليست تشبه فكرة ذلك المساء الذّي جعلتني أدفع فيه من ألمي ثمن ما تكتبين؟
كنت ذاهبا حينها أو "مهاجرا"- إذا أردت – وكنتِ غائبة عن توديعي، ثمّ أرسلت لي اعتذارا بالبريد:
- "لا تـهـاجـر"
ها قد أصبحت تكتبين القصص لتعتذري، ولا أستبعد أنّك الآن تكتبين قصّة/اعتذارا أخري تقايضين بها الإنتظار.
إذا:
- "لا تعتذري عمّا فعلتِ"
فلم تخلق الكتابة لنغسل بها أيدينا ممّا تقترفه خارج نصّ، أو لنتستّر خلفها ونزيّن بها أخطاءنا، الكتابة موقف، كفّ جريئة تخلع عن الوجوه المهترئة ما تراكم فوقها من أقنعة.
وأنا سأكتب..
سأكتب أخيرا لأفضحهم جميعا، لأخلع عن سماسرة الغوغاء ما تبقّى من أقنعة على عورات أفكارهم، لأضع كلّ أقلامي في أعينهم، وأبصق الحبر على صفحات وجوههم المتجعّدة..
كانوا يختطفوننا فكرة فكرة، صوتا صوتا..
فمنّا من انتهى قلما يرقص بالإيجار في خمّارات الضّجيج،
ومنّا من لم يتحمّل فمات باختناق في قريحته،
ومنّا من دفنوا صوته حيّا وأهالوا عليه أكوام النّباح..
وأنا لن أسكت بعد اليوم، فلقد كسرت قفل الخوف وغادرت دهاليز الإنتظار..
وسأكتب، وفاء لنا جميعا، وفاء لصاحبي الذّي صرخ بنا وهو يحتضر في صمته الإنفرادي: "اكتبوا على الجدران، اكتبوا على الأبواب، اكتبوا على أجسادكم، لكن لا تمنحوهم فرصة الفرح بصمتكم".
سأكتب، رغم أنّي أعرف أنّك لا تنتظرين منّي نصّا، كما لم تنتظري مجيئي.
لكنّي أتيت..
وسأكتب أخيرا.. وينتهي الإنتظار.
-2-
أنا ما أزال هنا أنتظر..
هذه حقيقة سأنطلق منها،
"أنا" بطلة هذه القصّة و"ما أزال" زمانها و"هنا" مكانها و"أنتظر" هي كلّ أحداثها.
إنّ الكاتب هو بطل ما يكتب دائما، وإذا كان بعض الكتّاب يحكون أنفسهم متقنّعين بشخوص يستولدونها من خيالهم، فإنّي لست من هذا النّوع الجبان من الكتّاب، والقصّة بالنّسبة إليّ ساحة مواجهة مع نفسي ومع القارئ، ولا أحتاج فيها إلى وكلاء أستجلبهم من الوهم لينوبوا عنّي في ما لا أستطيع.
أنا كاتبة هذه القصّة وبطلتها..
تلك حقيقة سأنطلق منها، ثمّ أبدأ الإدّعاء.
ربّما لن يعجبه هذا الأسلوب لأنّه كان يقول لي: "لا تتكلّفي الأدب بل اكتبي ما تعيشينه ببساطة، فالمعاناة التي نعيشها هي الثّمن المدفوع لشيء أهمّ: هو الكتابة".
أتراه الآن يدفعني للكتابة عندما يجعلني أنفق كلّ هذا الإنتظار دون أن يأتي؟
إذا أقول له اليوم إنّي لن أتكلّف الأدب لكنّي أيضا لن أكتب ما أعيشه بل ما سأدّعي أنّي أعيشه، فالفنّان لا يقول الأشياء التّي حصلت، ليس ذلك شأنه.. إنّما ينطلق من حقيقة حاصلة ليقول ما يمكن أن يحصل، ما يجب أن يحصل.
والحقيقة أنّي ما أزال هنا أنتظر،
وكان يمكن أن يأتي، كان يجب أن يأتي،
لكنّه لا يأتي..
لذلك لن أذكر في قصّة ما تكدّس فيّ الآن من رماد السّخرية الذّي خلّفته حرائق الألم، ولن أقول شيئا عن الخيبة التي صارت قافية لكلّ أبيات الأمل في قصائد انتظاري له، ولا عن كراهيّتي لهذه المحطّة التي بدأت تأخذ شكل حاضنة لمعاناتي وهي تكبر ساعة بعد أخرى..
كان يحبّ المحطّات، ويومئ لي أحيانا أن أستلهم منها نصّا لما يظنّه في ذاكرتها من أحزان جديرة بالتّدوين، وكنت أكرهها دون سبب، وأصبحت أحقد عليها لأكثر من سبب، لذلك أرفض الكتابة عن هذه المحطّة التي تشيح الآن بمقاعدها عن أحزاني وتجثم بصخبها اللاّمبالي على أنفاس
جراحي، وأرفض أن أقصّ حكاية انتظار لا يأتي في نهايتها ليكفكف نزيف لهفتي، مثل ما فعل ذلك الرّجل الذّي فجّر داخلي براكين الشّوق بعد أن كابدت إخمادها طيلة ساعات الإنتظار وأنا أراه يكفكف تعطّش طفله للقائه، لن أروي أنّي كدت قبل ذلك بلحظات أعتقده هو، ربّما لفرط ما كان يشبهه، أو ربّما لفرط ما كنت متعطّشة للقائه فظهر لي كالسّراب في هجير اليأس.
لن أذكر قطّ أنّه كان كلّما رآني أبكي فقد أبي، يربّت على شعري ويزعم أنّني ابنته، وأنّه كان بذلك يحكم عليّ باليتم مرّتين؛
مرّة كنت أرهف سمع القلب فيها وأنا أنتظر، حتّى إذا سمعت وقع خطى أبي يقترب من نبضي اللاّهث فتحت الباب لأستقبل فجيعة الغياب، فأتذكّر أنّه هاجر إلى حيث لن يعود..
وأخرى هي هذه التي لست فيها الطّفل الذي أتى من أجله هذا الأب الذي شبّه لي، وما كان هو فيها أبي الذي انتظرته.
لذلك لا أقبل الكتابة عن الإنتظار عندما يصبح حالة عبثيّة نستسلم لها ونحن نعرف أنّ من ننتظره لا يأتي، لكنّنا نظلّ ننتظر لأنّ ذلك هو التّبرير الوحيد لبقائنا، ولذلك بالذّات لن أبرّر وجودي هنا بحقيقة أنّني ككلّ النّساء العربيّات اللاّتي ليس لهنّ إلاّ أن ينتظرن فرسانهنّ و يلوّحن للأفق بمناديل الحنين ولو أدركن أنهم لن يعودوا..
و لست مستعدّة أن أجعل من هذه القصة وثيقة اعتراف أبوح فيها أنّي انتظرته،
وكان شاعرا بحقّ ،
يعرف كيف يبهرني عندما يتكلّم فيسلبني القدرة على مجادلته ،وكيف يجعلني أرى الأشياء بعين كلماته فأصدّقه وأنتظر منه أشياء كثيرة..
انتظرت أوّل معرفتي به مأساة بأسرها ليقول لي "أحبّك"
وانتظرت منه – هو الذّي يحثّني على الكتابة – قصيدة جديدة ، فلم يكتب
وانتظرته عندما قال لي: "المهمّ هو أن نأتي وليس متى نأتي ، فلا شيء يحصل في غير وقته"
ولم يأت،
وكان شاعرا بحقّ، يقول ما لا يفعل..
لذالك سأكتب عنه كل تلك النصوص التيّ لم يكتبها ، وتلك التيّ لن يكتبها ، لكنيّ لن أكتب عن المحطّات وعن خيبة الإنتظار .
بل سأدّعي أنّه سيأتي
ولذلك
أنا ما أزال هنا أنتظر..
( ســـوســـة )
مـارس -2007
هــــامــش :
(1) لا تهاجر :عنوان القصــة الفارطـة .
(2) إستعارة من عنوان مجموعـة "لا تعتذر عمّا فعلت" لدرويــش.
هاجر ذويب
قصة إنتظار